الجمعة، 25 نوفمبر 2016

مسالك العلة 1


بسم الله الرحمن الرحيم

هذه مذكرة أخرى في أصول الفقه مع كتاب روضة الناظر وجنة المناظر للموفق رحمه الله تعالى، فقال رحمه الله:

[أدلة إثبات العلة]

مسالك العلة

أدلة الشرع ترجع إلى "نص" أو "إجماع" أو "استنباط" فهذه ثلاثة أقسام:

القسم الأول: إثبات العلة بأدلة نقلية الكتاب والسنة، وهو ضربان

في أكثر النسخ "ثلاثة أضرب" لكن المصنف -كما سيأتي- ذكر ضربين فقط:

الأول: النص الصريح، والثاني: التنبيه والإيماء إلى العلة.

ولعل السبب في ذلك: أن الإمام الغزالي، الذي يعتبر كتابه "المستصفى" أصلًا لهذا الكتاب، جعل ذلك ثلاثة أضرب: الصريح، والتنبيه والإيماء على العلة، والتنبيه على الأسباب بترتيب الأحكام عليها بصيغة الجزاء والشرط، وبالفاء التي هي للتعقيب والتسبيب.

وجمهور العلماء يجعلونها ثلاثة أضرب أيضًا، هي: النص القاطع، وهو الذي يدل على التعليل دلالة صريحة دون احتمال لغيره، مثل: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لأجل كذا، ولكي، والنص الظاهر: وهو ما يدل على العلية مع احتمال غيرها احتمالًا مرجوحًا، وله ألفاظ معينة تدل على التعليل، كاللام والباء وإنّ، والإيماء. فالمصنف أخذ عنوان المستصفى في جعلها ثلاثة أضرب، وأدخل الظاهر مع القاطع وجعلهما ضربًا واحدًا، أو يكون ذلك من تصرف النساخ. انظر في هذه المسألة: الإحكام للآمدي "3/ 38"، فواتح الرحموت "2/ 295"، الإبهاج للسبكي "3/ 22"، شرح مختصر الروضة "3/ 356 وما بعدها".

الأول- الصريح:

    I.            وذلك أن يرد فيه لفظ التعليل كقوله تعالى:

1.    {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً}

سورة الحشر من الآية "7" وهي قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ... } أي: إنما جعل مصرف الفيء في هذه الجهات حتى لا يتداوله الأغنياء جيلًا بعد جيل، أو قومًا بعد قوم، ولا تنتفع به الجهات المحتاجة إليه.

2.    {لِكَيْلا تَأْسَوْا}

سورة الحديد من الآية "23" وقبلها قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: أخبر الله تعالى بأن كل ما يجري في هذا الكون مسطر في اللوح المحفوظ قبل أن يقع، لئلا تحزنوا على ما يفوتكم ولا تفرحوا -فرح بطر وتكبر- بما يأتيكم من نعم.



3.    {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}

سورة الأنفال من الآية "13" والحشر من الآية "4" والمشاقة: المخالفة، وسميت بالمشاقة؛ لأن المخالف صار في شق آخر. قال في المصباح: "شاقّه، مشاققة، وشقا: خالفه، وحقيقته: أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه، فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه". ومحل الشاهد هنا: أن الله تعالى قد أخبر في الآية التي قبلها بأن قوله تعالى: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ} بسبب شقاقهم أو لعلة شقاقهم، كما رتب -سبحانه- العلة في سورة الأنفال على قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ... } ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله.

4.     {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ}

سورة المائدة من الآية "32" وهناك خلاف بين العلماء في متعلق {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ}فالمشهور أنه متعلق بـ"كتبنا" أي: كتبنا على بني إسرائيل بسبب قتل ابن آدم أخاه، صونًا للدماء. وقيل: متعلق بندامة ابن آدم على قتل أخيه، أو من أجل عدم مواراة أخيه، حتى نبهه الغراب على ذلك والتعليل صحيح على كل تقدير. انظر: شرح الطوفي "3/ 358".

5.    {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ}

سورة البقرة من الآية "143" وقبلها قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: ليمتحن الله -تعالى- عباده بالانقياد في التحول من قبلة إلى قبلة.

6.    {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}

سورة المائدة من الآية "95" وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} أي: أوجبنا عليه الفدية عقوبة على فعله ليذوق وبال أمره، أي: ثقل فعله وسوء عاقبة ذنبه، والتعليل هنا ظاهر، أي: لعلة إذاقته وبال أمره.

7.    وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "إِنَّما جُعِلَ الاسْتِئْذانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ"،

أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب الامتشاط، وفي كتاب الاستئذان، باب الاستئذان من أجل البصر، ومسلم في كتاب الأدب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، والترمذي في كتاب الاستئذان، باب من اطلع في دار قوم بغير إذنهم وعبد الرزاق في المصنف: كتاب الجامع، باب الرجل يطلع في بيت الرجل. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "5/ 330/ 335".

8.    و "إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ".

أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود ومالك وأحمد، والرواية التي معنا هي لفظ مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- في كتاب الأضاحي، باب ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام، جاء فيها قالوا: يا رسول الله، إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجعلون فيها الودك. "دسم اللحم والشحم" قال: "وما ذاك" قالوا: نَهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفّت فكلوا وادخروا وتصدقوا". والمراد بالدافة: جماعة من المساكين قدموا المدينة، فنهى -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن ادخار لحوم الأضاحي، حتى يتصدق عليهم أهل المدينة، ويوسعوا عليهم انظر: الموطأ "2/ 485".

II.            وكذلك إن ذُكر المفعول له، فهو صريح في التعليل؛ لأنه يذكر للعلة والعذر،

1.    كقوله تعالى: { ... لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ}،

سورة الإسراء من الآية "100" وهي قوله تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} . أي: خشية أن تنتهي هذه الخزائن.

2.    {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ}

سورة البقرة من الآية "19".

III.            وما جرى هذا المجرى من صيغ التعليل.

فإن قام دليل على أنه لم يقصد التعليل نحو: أن يضاف إلى ما لا يصلح علة: فيكون مجازًا، كما لو قيل: "لم فعلت هذا"؟ قال: "لأني أردتُ"، فهذا استعمال اللفظ في غير محله.

معناه: أن الأصل في وضع اللغة أن يضاف الفعل إلى علته وسببه، فإن أضيف إلى ما لا يصلح علة فهو مجاز، ويعرف ذلك بوجود دليل على عدم صلاحيته للعلية، كما في المثال الذي أورده المصنف، وإنما لم يكن علة؛ لأن الإرادة ليست علة للفعل، وإن كانت هي الموجبة لوجوده، أو المصححة له، لأن المقصود بالعلة: المقتضى الخارجي للفعل، أما الإرادة فليست معنى خارجًا عن الفاعل: انظر: شرح الطوفي "3/ 359/ 360".

فأما لفظة "إنّ" مثل قوله، عليه السلام، لما ألقى الروثة: إِنَّها رِجْسٌ"،

رواه البخاري عن ابن مسعود -رضي الله عنه- في كتاب الوضوء، باب: الاستنجاء بالحجارة لكن بلفظ "ركس" بدل "رجس" ومثله رواية الترمذي: كتاب الطهارة، باب: ما جاء في الاستنجاء بالحجرين، والنسائي: كتاب الطهارة، باب الرخصة في الاستطابة بحجرين، ثم قال: "الركس: طعام الجن".

وأخرجه بالرواية التي أوردها المصنف ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: الاستنجاء بالحجارة، والنهي عن الروث والرمة، وأحمد في المسند "1/ 388". وهناك خلاف طويل بين العلماء في كون الرجس هو الركس أو غيره. ينظر: النهاية في غريب الحديث "2/ 100" والمصباح المنير مادة "ركس".

وقال، في الهرة: "إِنَّها لَيْسَتْ بِنَجسٍ، إِنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيكُمْ"و "لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِها وَلَا عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ قَطَعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ".

فإن انضم إلى "إنّ" حرف الفاء: فهو آكد، نحو قوله، عليه السلام: "لَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فإِنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا" .

قال أبو الخطاب: هذا صريح في التعليل.

وقيل: بل هذا من طريق التنبيه والإيماء إلى العلة، لا من طريق الصريح. والله أعلم.

خلاصة ما يريده المصنف من أول قوله: "فأما لفظة إنّ" إلى هنا: أن هذه الأمثلة وما يشبهها فيها مذهبان: أحدهما: أنها من قبيل الصريح، وثانيهما: أنها من قبيل الإيماء. فأبو الخطاب يرى أنها صريحة، خصوصًا إذا لحقته الفاء، كما في حديث المحرم، فإنه يزداد بها تأكدًا، لدلالتها على أن ما بعدها سبب للحكم فيما قبلها. ويرى غير أبي الخطاب أنها من قبيل التنبيه والإيماء. وهذا ما جرى عليه الطوفي في شرحه "3/ 360-361" لكن ذلك يخالف ما نص عليه أبو الخطاب في التمهيد؛ حيث جعل "إنَّ" من قبيل الصريح، وما دخلت عليه الفاء من قبيل الإيماء. قال: "وأما التنبيه: فضروب، منها: أن يكون في الكلام لفظ غير صريح في التعليل، فيعلق الحكم على علته بلفظ الفاء. وهو على ضربين:

أحدهما: أن تدخل الفاء على السبب والعلة، ويكن الحكم متقدم، كقوله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- في المحرم حيث وقصته ناقته: "لا تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبًا، فإنه يحشر يوم القيامة ملبيًا" التمهيد "4/ 11".

والغزالي في المستصفى "3/ 606-607" جعل "إنّ" المجردة، والتي انضمت إليها الفاء من قبيل الإيماء.

وقد جعل الطوفي الخلاف في ذلك خلافًا لفظيًّا فقال: "النزاع في هذا لفظي، لأن أبا الخطاب يعني بكونه صريحًا في التعليل: كونه تبادر منه إلى الذهن بلا توقف في عرف اللغة، وغيره يعني بكونه ليس بصريح: أن حرف "إنّ" ليست للتعليل في اللغة، وهذا أقرب إلى التحقيق، وإنما فهم التعليل منه فهمًا ظاهرًا متبادرًا بقرينة سياق الكلام، وصيانة له عن الإلغاء؛ لأن قوله: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات، إنها ليست بنجس" ونحو ذلك، لو قدّر استقلاله وعدم تعلقه بما قبله، لم يكن له فائدة، فتعين لذلك ارتباطه بما قبله، ولا معنى له إلا ارتباط العلة بمعلولها، والسبب بمسببه. فبهذا الطريق يثْبُت كونه للتعليل لا بوضع اللغة" شرح مختصر الروضة "3/ 361".

قال ابن بدران، تعليقًا على كلام الطوفي: "أقول: يعلم كل لغوي أن حرف الجر يحذف من "إنّ" قياسًا مطردًا" والمحذوف كالثابت، ففهم التعليل إنما جاء من اللام المحذوفة لا من "إنّ" فالأقرب إلى التحقيق ما قاله أبو الخطاب". نزهة الخاطر العاطر "2/ 260".

الضرب الثاني ـــــ التنبيه والإيماء إلى العلة:

قال الطوفي في شرحه "3/ 361": "وهو ضرب من الإشارة، والفرق بينه وبين النص: أن النص يدل على العلة بوصفه لها، والإيماء يدل عليها بطريق الالتزام، كدلالة نقص الرطب على التفاضل، أو بطريق من طرق الاستدلال عقلًا" والخلاصة: أن دلالة الإيماء على العلة دلالة معنوية، ودلالة النص دلالة لفظية.

وهو أنواع ستة:

أحدها: أن يذكر الحكم عقيب وصف بالفاء، فيدل على التعليل بالوصف كقوله تعالى:

1.    { ... قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}، سورة البقرة من الآية "222".

2.    و {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} سورة المائدة من الآية "38".

3.    وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ"،

أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما -مرفوعًا- في كتاب الجهاد، باب: لا يعذب بعذاب الله حديث "3017" وفي كتاب استتابة المرتدين، باب: حكم المرتد والمرتدة حديث "6922" وأحمد في المسند "1/ 282، 283، 322، 323"، وأبو داود: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "4351" والترمذي: كتاب الحدود، باب: ما جاء في المرتد، حديث "1458" والنسائي: كتاب تحريم الدم، باب: الحكم في المرتد "7/ 104" وابن ماجه: كتاب الحدود، باب المرتد عن دينه، حديث "2535".

4.    و "مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيتَةً فهِيَ له".

أخرجه أبو داود في سننه حديث "3073" والترمذي "1378" والبيهقي "6/ 142" والدارمي: كتاب البيوع، باب: من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وأحمد في مسنده "3/ 338، 381" والنسائي بلفظ: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق".

كما أخرجه البخاري تعليقًا في باب: من أحيا أرضًا مواتًا، من كتاب الحرث والمزارعة.

وقوى سنده الحافظ في الفتح "5/ 19". ورواه أبو عبيد في الأموال "286" عن عائشة -رضي الله عنها- بلفظ: "من أحيا أرضًا ليست لأحد، فهو أحق بها".

ولهذا يفهم منه السببية وإن انتفت المناسبة، نحو قوله: "مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوضَّأ"

المناسبة المقصود بها: المصلحة والمفسدة

ويلحق بهذا القسم:

أي: يلحق بالنوع الأول، وهو: ما ذكر فيه الحكم عقب الوصف بالفاء في كلام الشارع، ما ورد على لسان الراوي مقرونًا بالفاء؛ لأنه من أهل اللغة.

ما رتبه الراوي بالفاء، كقوله:

1.    "سَهَى رَسُولُ الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فَسَجَدَ"

روي عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أن النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- "صلى بهم فسهى فسجد سجدتين، ثم تشهد ثم سلم" أخرجه أبو داود: كتاب الصلاة، باب: سجدتي السهو فيهما تشهد وتسليم حديث "1039"، والترمذي في أبواب الصلاة، باب: ما جاء في التشهد في سجدتي السهو، حديث "395" والحاكم في كتاب السهو، باب: سجدتي السهو بعد السلام "1/ 323" وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" قال الذهبي في الميزان "1/ 267": "أشعث بن عبد الملك ثقة، لكنه ما خرّجا له في الصحيحين".

2.    و"رَضَخَ يَهُودِيٌّ رَأْسَ جَارِيَةٍ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- أَنْ يُرَضَّ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ".

روى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاح "حلي الفضة" لها، فقتلها بحجر، قال: فجيء به إلى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- وبها رمق، فقال لها: "أقتلك فلان؟ " فأشارات برأسها أن لا. ثم قال لها الثانية، فأشارات برأسها أن لا. ثم سألها الثالثة فقالت: نعم، وأشارت برأسها، فقتله رسول الله -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- بين حجرين.

أخرجه البخاري في كتاب الديات، باب: إذا قتل بحجر أو عصًا، ومسلم: في كتاب القسامة، باب: ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره "1672" وأبو داود: كتاب الديات، باب: يقاد من القاتل، وباب القود بغير حديد، والترمذي حديث "1394" والنسائي: كتاب القسامة، باب القود من الرجل للمرأة، وباب القود من غير حديدة. كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "3/ 170، 171".

يفهم منه السببية فلا يحل نقله من غير فهم السببية؛ لكونه تلبيسًا في دين الله.

التلبيس: المبالغة في الخلط. جاء في المصباح المنير مادة "لبس" ولبستُ الأمر لبسًا، من باب ضرب: خلطته. وفي التنزيل: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] والتشديد مبالغة".

الظاهر أن الصحابي يمتنع مما يحرم عليه في دينه، لا سيما إذا علم عموم فساد، فيظهر أنه فهم منه التعليل.

والظاهر أنه مصيب في فهمه، إذ هو عالم بمواقع الكلام ومجاري اللغة، فلا يعتقد السببية إلا بما يدل عليها، واللفظ مشعر به. ولا يحتاج إلى فقه الراوي، فإن هذا مما يقتبس من اللغة، دون الفقه.

قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير "4/ 127": "ولا فرق في العمل بذلك بين كون الراوي صحابيًّا أو فقيهًا أو غيرهما، لكن إذا كان صحابيًّا فقيهًا كان أقوى"

الثاني ــــ ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء يدل على التعليل به؛ كقوله تعالى:

1.    {مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} سورة الأحزاب من الآية: "30".

2.    {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} سورة الأحزاب من الآية "31"،

3.    {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} سورة الطلاق من الآية "2". أي: لتقواه.

4.    وقول النبي، صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم: "مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلَّا كَلْبَ مَاشِيَةٍ أَوْ صَيْدٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيراطَانِ" .

أخرجه البخاري: كتاب الذبائح، باب: من اقتنى كلبًا ليس بكلب صيد أو ماشية، ومسلم: كتاب المساقاة، باب: الأمر بقتل الكلاب، والترمذي: أبواب الصيد،باب: ما جاء من أمسك كلبًا ما ينقص من أجره والنسائي: كتاب الصيد، باب الرخصة في إمساك الكلب للماشية، وباب الرخصة في إمساك الكلب للصيد، كما أخرجه الإمام مالك: كتاب الاستئذان، باب: ما جاء في أمر الكلام، والإمام أحمد في المسند "2/ 4، 8، 37، 47، 60، 101، 113، 156".

النوع الثالث ــــ أن يسأل النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- عن أمر حادث، فيجيب بحكم، فيدل على أن المذكور في السؤال علة.

كما روي أن أعرابيًّا أتى النبي -صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّم- فقال: هلكت وأهلكت. قال: "مَاذَا صَنَعْتَ"؟ قال: واقعت أهلى في رمضان. فقال، عليه السلام: "أعْتِقْ رَقَبَة" فيدل على أن الوقاع سبب؛ لأنه ذكره جوابًا له، والسؤال كالمعاد في الجواب، فكأنه قال: "وَاقَعْتَ أَهْلَكَ فَاعْتِق رَقَبَة".

واحتمال أن يكون المذكور منه ليس بجواب: ممتنع، إذ يفضي ذلك إلى خلو محل السؤال عن الجواب، فيتأخر البيان عن وقت الحاجة، وهو ممتنع بالاتفاق.



هذه المحاضرة يتكون من ثلاث محاضرات كنت سجلت بعض الفوائد في الكتاب وإلا أنها لا تستغني عما لم أكتبه... فالله أسأل أن يوفقني في الاستفادة في هذا القليل وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق